1- الفكرة قال أحدهم يومًا لأحدنا قاصدًا، عامدًا تأنيبه: ما تقول للكاتب تُحلِّق برأسه الفكرة بعد انقطاع دام شهورًا؛ فيفرح بها فرحة العاثر على ضالَّته، الظافر بما تمنّى، يلتمِس قلمًا وورقة لكنه لا يَجد؛ يَنطلِق مُسرِعًا إلى الدار يأخُذ وضْع الكاتب الفَطِن الحاذق حتى يَستلم القلم بين إبهام وسبّابة ليَرى تلك التي ظفر بها قد فرَّت منه فرارًا، فعاد كما يُقال: بخفَّي حُنين؟ أحدنا ابتسم وقال: حدثَتْ كثيرًا، وما نجوتَ منها - لا أُخفيك سرًّا. أحدهم: إذًا ماذا تقول؟ أحدنا: هو كاتب أخذته العزَّة بالفِكرة؛ فظنَّ أنه وحدَه الطارق لها، غير أنها حامَت برؤوس آخَرين، ولكنها ربما تعود له مرة أخرى ساعة أن يُعلن على الملأ أنه الفقير إلى ربه، والله المُستعان، وعليه قصد السبيل. أحدهم: صدقتَ، ثم انصرف. 2- الخريف قال أحدهم يومًا لأحدنا مُتعجِّبًا: سمعتُك ذات مرة تُبارك فصل الخريف مُتجاهلاً دعة الربيع، ومطر الشتاء، وروعة الصيف؛ وكنتَ تقول: "بوركت، بوركت يا فصل الخريف، بوركت حين بلوت الشجر؛ بورِكتَ حين أسقطت الضعيف وما فيه السوس نخَر؛ بوركْتَ حين سألت الشتاء أن يَنتظِر"، أنَّى يكون هذا أفادكم الله؟ أحدنا: هل تملُّ سؤلي؟ أحدهم: سؤال بسؤال كل مرة؟! تفضَّل. أحدنا: لو أن الخريف لم يمرَّ علينا مرور الأرض أمام الشمس الذهبية، وظلَّت هيئة الأشجار كما هي مِن بالي الغصون وذابل الفروع؛ هل سترى البراعم الجديدة ضوءًا للشمس العزيزة في الشتاء؟ أحدهم: لا لن تراه. أحدنا: ولو لم تنمُ البراعم وتأخذ دورها في الظهور والنماء، أنى للأزاهر أن تفوح بشذاها في الربيع لتُشعِلَ قرائح الشُّعراء؟! أحدهم: صدقتَ! أحدنا: وإن لم توهَب البراعم فرصة الظهور والنماء والإزهار، أنَّى لنا أن نَجتني من كل زوج بهيج؟ أحدهم: صدقت فيما بيَّنت وفصّلت، لكن الناس يا صاح لا ينظرون دومًا إلا إلى الناتج واليانع؛ فمظلوم هو فصل الخريف، بورك فصل الخريف! ثم انصرف... 3- الضاد قال أحدهم يومًا لأحدِنا: ما تقول في حرف الضاد؟ أحدنا: حرف ككل الحروف، غير أنه ما عاد بالمألوف! أحدهم متعجبًا: كيف هذا؟ هل يستقيم الكلام بدون اكتمال حروفه؟! أحدنا: أنت تعي ما أعنيه وأقصده. إن هذا الحرف رفَعَه الأوائل، ودانت له الأعاجم؛ بل كانت تُرفَع له القبعات والقلانس لتنحني أمامه توقيرًا؛ رجاء النَّيل من خيراته وما حوته أنباء السلف. أحدهم: وماذا حدث؟ أحدنا: هجرَه المُحدثون وركضوا خلف اللاتينية يلتمسون منها الحكمة والعلم، فتوراى الحرف وضاع منهم حتى خلت منه كتب العلوم! أحدهم: يَكفي هذا الحرف عزةً أنه لغة القرآن الكريم. أحدنا: ومَن يَعقِل غير العالمين، والشيء بالشيء يُذكَر، فلقد وقعت عيني مرة على طرفة جميلة قلما تعود لدى زمان الجلنزة والتحول. أحدهم: ما هي؟ عليَّ بها؟ أحدنا: "ذات مرة دخل أبو العلاء المعرّي مجلسًا فاستوقفه غلام حدَثُ السنِّ، وقال له: يا سيِّدي، أأنت القائل: وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانه لآتٍ بما لم تَسْتَطِعْهُ الأوائل فقال أبو العلاء مُبتسِمًا: نعم، إن البيت لي. فقال الغلام: فإن الأوائل قد وضعوا للعربية ثمانية وعشرين حرفًا، فهل من جديد لدَيك؟ ابتسم أبو العلاء برغم أن الكلمة كانت صادمة ثم قال للحضور: إن هذا الولد لن يعيش طويلاً، فقالوا: لمَ؟ قال: لفراسته وحضوره. هؤلاء هم أشبال السلف ولا عزاء لحرف الضاد. أحدهم: صدقت، ثم انصرف. الألوكة
|